وقفات مضيئة
هي وقفات مضيئة وذكريات عطرة مع الذين أسسوا هذا الصرح الشامخ
جمعية أبناء ودمدني الخيرية بالرياض.
هذه هي البداية وآمل أن أوفق في مواصلة المشوار مع مؤسسيها وواضعي لبناتها
الترتيب بالتسلسل التاريخي..
أبدء بأول من تقبلت معه
.. مرتضى يوسف العركي..
كان الجو باردا كالصقيع.. لم أدري نفسي هل ضلت بنا الطائرة طريقها واتجهنا إلى موسكو أم هي بالفعل حطت بنا في مدينة الرياض هذه المدينة التي تحتضنها أكبر صحاري العالم في قلب جزيرة العرب..
كان شتاء العام 2000م شتاءً مميزاً بحق لم أر مثله في حياتي.. البرد أكثر ما يشتد علينا في الظهيرة فكنت أتعجب من ذلك أشد العجب فأطلب ( البطانية ) ثم الثانية واستحي أن أطلب الثالثة فقد كنت لا أزال ضيفاً لم أشق طريقي بعد .. عرفت بعد ذلك أن هذه الجدران الأسمنتية التي يسكنها أهل هذا البلد تمتص برودة الليل القارص ثم تنفثه زمهريراً بارداً على ساكنيها في منتصف النهار.
لم أكن أتوقع أنني بعد أن فارقت أبي بيد المنية، أن أفارق أمي وأخوتي وأصدقائي و شمس السودان الدافئة وهواء النيل العليل.. نحن أبناء ومدني وهو قاسم مشترك بيننا لا نطيق حتى الخرطوم لا تكاد تجد في السوق الشعبي بالخرطوم بعد المغيب إلا ( ناس مدني ) يبحثون عن الحافلات والعربات الصغيرة أو حتى (اللواري) فلا يبت أحدنا ولو بعد خمس ساعات إلا في مدني ليس ذلك من قلت مأوى في الخرطوم فجميع أبناء ودمدني لهم أقارب في الخرطوم ولكنه الحنين الذي لا يعرف مداه إلا (ناس ) مدني ..
أذكر أنني كنت أحضر جميع المحاضرات في سنة الماجستير الأولى من منزلنا في ( مدني )، أستقل حافلة جامعة الجزيرة التي كان لها رحلة يومية الخامسة صباحاً إلى مكتب الجامعة والذي صادف وجوده بالقرب من جامعة الخرطوم ثم أرجع قافلاً في الثانية بعد الظهر بنفس الحافلة لندخل أم المدائن قبل مغيب الشمس .
ساعدني في ذلك أن الحصة الصباحية دائماً ما تكون مع البروفسير الضليع (اكولدا مانتير) حيث كنت أحظى بحبه وتقديره الشديد .. كان يدرسنا مادة الملكية الفكرية وكانت من أصعب (الكورسات) في تلك السنة .. فعندما يحين موعد المحاضرة في التاسعة صباحاً تكون الحافلة قد استقرت بنا في مقر مكتب جامعة الجزيرة .. فأقطع المسافة من المكتب إلى كلية القانون مشياً على الأقدام .. وفي تلك الأثناء يدخل الطلبة وعددهم لا يتجاوز السبعة قاعة المحاضرات وقد تهيئوا للمحاضر فيفاجئهم البروفسير باعتذاره قائلاً : ( Let us wait half minute, Yaser is coming from the Jazira) )، فكان أعجمياً لا يتحدث العربية ولا يستطيع لسانه أن ينطق اسم أم المدائن ( مدني ).
مثلي مثل الكثيرين الذين جاءوا إلى هذا البلد لم أكن مرتبطاً مع جهة معينة وإنما حضرت بإقامة حرة .. فكان همي أن أجد عملاً مناسباً وحبذا لو كان في مجال التخصص..
دعاني مجموعة من أبناء ( الدرجة ) وأذكر منهم الأخ/ محمد خليل وجمال خليل ومجدي الطيب إلى مأدبة غداء أعدت استقبالاً وترحيباً بقدوم واحد من أبناء (الدرجة) ..وقد اصطحبني إليها صديقي العزيز كمال .. وصاحبي الريح.
وفي أثناء وجودنا في منزل (العزابة) في الملز وقعت عيناي على ( بروشور ) لمركز تدريبي قانوني اسمه المركز الاستشاري للتدريب القانوني وقالوا لي أن فيه أحد أبناء (مدني) ولعله من كبار التنفيذيين فيه .. فسررت بذلك سروراً عظيماً .. أيوجد في هذا البلد من يدرّس القانون ويدربون القانونيين .. أفي هذا البلد محاكم وقوانين.. ومراكز لتدريب القانون يرعاها سودانيون ومن أبناء مدني.
انتظرت الصباح بفارق الصبر فهرعت مسرعاً إلى مقر ذلك المركز التدريبي بالقرب من مرور الناصرية .. كان بيدي نسخة من ذلك ( البروشور ) دليلي إلى المكان.. حاولت طوال الليلة الماضية بين صفحات (البروشور) عساي أن أجد صورة لأبن (مدني) الذي كنت أقصده في ذلك المركز دون جدوى .. قالوا لي أن اسمه مرتضى يوسف .. وهو من أسرة (العركيين) أسرة عريقة في مدني يسكن القسم الأول كان ضابط شرطى لم يدنو من ثلاثين العمر عندما ترك العمل وقدم إلى المملكة .. وصفوا لي ملامحه لكنني لم أتذكره قالوا مستحيل فكل المعطيات تشير إلى أنك قابلته في مكان ما..
دخلت مقر المركز في الطابق الثاني سألت عنه فدلوني على مكتبه .. طرقت الباب .. فقال أهلاً مرحباً فأذن لي بالدخول .. كنت أريد أن أتعرف على المركز ولكني كنت شغوفاً أكثر بهذا الشاب الذكي الذي استطاع أن يفرض نفسه بتفوق رغم أن القانوني كان تخصصاً مكملاً لعمله فقد التحق بكلية الحقوق بعد أن أكمل دراسته بكلية الشرطة وهو على رأس العمل.
بمجرد أن خطوت خطواتي الأولى بالداخل نهض وقفاً برشاقة وخفة وثبات رجال الأمن وكان ذلك كافياً جداً لأتبين ملامحه وصورته .. عرفته على الفور بوسامته وابتسامته وقسمات وجهه الجميل وقد زاده هندامه تألقاً وهيبة .. فقال لي : ( أهلاً بود الخليفة .. ود الأستاذ).. أدركت أنني في ورطة كبيرة فالرجل أي نعم عرفته ولكن لم أتذكر أين قابلته وهو يعرف عني كل شيء .. سلمت عليه فعانقني بدفء وترحاب شديد ترك مكانه في مكتبه وجلس معي في المكان المعد داخل المكتب للضيوف سألني متى جئت إلى السعودية وإلى الرياض وأين تعمل وكيف الأهل فرداً فرداً حيث كان ملماً بجميع أسرة الخليفة خضر.
كان لبقاً ينتقى الكلمات ملماً واسع الإطلاع شفيف وشفاف لأبعد الحدود ..
حدثني بصوت هادئ مبحوح ونبرات مميزة ممزوجة بأنفاس عطرة تكفي وحدها لتنعش (غباش) الذكرى و(غبار) السنين.. قال لي أننا تصادفنا في مدرسة البندر الابتدائية وهي أقدم مدارسة الأساس بمدني أن لم تكن الأعرق بينهم، ذكر لي أنه (دفعت) جعفر أو محمد أبناء الخليفة خضر وهما أخوالي وكانا يسبقاني في المدرسة.. وذكر لي معرفته بالوالد رحمه الله رغم أنه لم يتتلمذ على يديه.
تكلم عن المركز والكوادر العاملة فيه وزودني بصورة متكاملة عن المهنة والمهنيين ومكاتب المحاماة والمحاكم وكليات الحقوق ثم عرج بي ناحية أبناء مدني بالرياض فشعرت لأول مرة أنني بين أهلي وإن كنت في غير المكان، وأحسست بالفخر والإعزاز أنهم ليسوا وجوداً هكذا وإنما هم أرقاماً وأعلاماً يملئون المساحات وقد ضاقت بأهلها.
وسنواصل أنشاء الله....
بقلم
ياسر فضل السيد (أبوعمر)